علمتني الطبيعة كيف أحب حقا..
انتقلت قبل أسبوع من الآن إلى أقصى جنوب تركيا مقاطعة داتشا، قرية من قراها المنعزلة عن المدن وصخبها..
كل يوم كنت أتشارك معكم في الستوريات حماسي قبل الانتقال وفرحي وامتناني وساعادتي بعد النقلة إلى أحضان طبيعة عذراء..
بيتي يقابل الجبال من جهة و البحر من الجهة الأخرى.. على الأرض وبه حديقة كبيرة ومحاط من كل جانب بتراب يصلح للزرع ..
كل يوم أتخيل كيف سيكون بعدما أزرعه ورودا وخضرا وفواكه .. لكن كان سؤال يراود خاطري دوما .. كيف سيكون الشتاء هنا؟
في الصيف والربيع وحتى الخريف هذا المكان جنة حقيقية..
لكن الشتاء الكل يهجر المكان، سمعت أن الأمواج عاتية، والرياح قوية جدا، وأن العواصف هنا موحشة جدا..
روادني هذا الانشغال كثيرا حتى أنه تحول إلى شعور خوف وتردد ، وإلى سؤال حقيقي بدأت أطرحه على أهالي القرية، جيراني..
جاوبني الكل أجوبة مختلفة لم ترضي فضولي ولا انشغالاتي ، صدقتهم لكن لم أفهم لماذا لم تكن أجوبتهم مشبعة لدواخلي..
البارحة بتاريخ 13-07-22 فهمت .. أدركت.. استوعبت.. وعشت الجواب..
وجاءت الطبيعة نفسها لي بأقوى جواب ..
وأنا في المطبخ أشرب قهوتي الصباحية ، أحضر لواحدة من جلساتي الاستشارية مع حوحوة من ألمانيا .. رأيت دخانا يتصاعد بكثافة من الجبل الذي مقابل بيتي..
هرولت لأخبر جيراني لنبلغ عن الحريق فوجدت أن الكل بلغ.. والكل كان ينتظر مروحيات الإطفاء على فزع..
في غضون النصف ساعة والمروحيات في طريقها إلى داتشا، قررت الطبيعة ألا تنتظر و تهيج برياحها الغاضبة لتحترق أكثر .. لتموت وتحيا أكثر ،، لتتألم وتتجدد وتتنفس أكثر..
الكل كان في حالة هلع طيلة اليوم، بكاء أهالي القرى على أراضيهم الزيتونية وبيوتهم الحجرية في أعالي الجبل التي تحترق، فطر قلبي..
خوف السياح ومحاولات هروبهم من النار أشعل أقصى درجات تعاطفي ..
عشرات السيارات والمروحيات الاطفائية اشتغلت ليلا نهارا لتطفئها.. لكن دون جدوى لليوم الثاني..
الآن أنا أكتب ومازالت المروحيات تتحرك ذهابا وإيابا من البحر لتملأ الماء إلى الجبل لتبرد شظايا النار..
بالليل سهرت لساعات متأخرة من الليل مع أهالي القرى العالية الذين أتوا بحيواناتهم إلى الساحل عندنا هروبا من النار.. بقينا نتسامر على ضوء البدر ، وللحظة فصللت عما حولي لأمتن عميقا على تمكني من اللغة التركية باحتراف، أحسست بقيمتها على مستوى أعمق لقدرتي على مواساتهم والاستماع إلى آلالمهم وخوفهم بالساعات، أحيانا تعلم اللغة لا يكون فقط خادما لنا بل يتعدى ذلك لخدمة البشرية..
كان القمر بدرا مكتملا، ليلة ساحرة عجيبة قوية المشاعر، جعلت كل مشاعري ومخاوفي تطفو على السطح ، كنت أرى القمر البدر المكتمل على يساري والجبال تحترق على يميني والبحر مقابيلي، والسماء كلها دخان ..
رأيت مخاوفي تصعد وتهيج .. لم أقاومها، عشتها وعبرت عنها لصديقتي جهرا، وكتبتها على الورق أيضا..
رأيت آلامي تحترق وتخمد مثل تلك الجبال، لم أطفئها .. تركتها تكون، وسمحت للألم أن يذرف دموعي وأن يضيق صدري وأنفاسي، إلى أن خمد لوحده في ساعات متأخرة من الليل..
أحسست بغضبي يجتاح كل كياني، فسمحت له أن يثور ويعلو دون أن أشتت نفسي بأي فعل “ليحسن مزاجي”
كتبت، بكيت، عبرت عن ألمي وخوفي، تنفست، سمحت لضعفي أن يكون، وللحريق الذي بداخلي أن يشتعل ويعكس ما يحصل بالخارج داخلي، أو ربما العكس .. مافي الخارج عكس داخلي ..
أحسست أن الزمن توقف البارحة، أن المكان لم يعد له أهمية.. فقط الحقيقية ، الحقيقة هي ما ركز عليها الكل حضوره..
حقيقة مشاعر الطبيعة التي عكست ما بداخلهم لتحرره، الكل أحس بالاحتراق والألم، الكل كان يرقص خوفا أو ألما أو حزنا أو غضبا أو كلهم مع بعض حول النار ..
الكل كان ينظر في أعين الكل مواساة وتعاطفا ..
وكأنها طقس تشافي جماعي ليلة قمر مكتمل، حلقة مقدسة حول نار غابات وجبال تحترق، شارك فيها كل أهل البلد.. لينظفوا بعضا من مشاعرهم، ليحرروا بعضا من أحاسيسهم، ليعبروا عما دفنوه حيا .. على مستويات مختلفة،م كل على حسب وعيه واستعداده للتحرر والتنظيف، للحرق والإحياء من جديد..
ثم أجابتني الطبيعة :
أنا أحبك بكل حالاتك، دعوتك لحضني .. لتريني كما أنا في كل فصولي بكل أحاسيسي ومشاعري، لتحبيني في كل أحوالي، لتسمحي لما يكون أن يكون دون مقاومة..
أنا انعكاسك وأنت انعكاسي، لست منفصلة عني لتحكمي على أحوالي وطقوسي ولا أنا منفصلة عنك، أنا معك هنا لتتذكري،
نحن نفرح ونزهر، نهب ونحترق، نتألم ونبكي، نموت لنحيا، نكون لنسمح لكل ما يكون بأن يكون..
أنا هنا وأنت هنا لبيت دعوتي لأحيي فيك ذاكرة الحكمة، حكمة التسليم والمراقبة، حكمة التدفق دون مقاومة..
جوابك وسؤالك أنا، وأنا أنت.. وأنت أنا..